طارق الحسن - سودانيات
شاعرنا المرحوم حميدة أبو عشر وهو وإن كان مقلا فى شعره الغنائى لكنه فرض
علينا بتفرده الشعرى أن نتناول أغنيتيه اللتين كتبهما للأستاذ المجدد عبد
الحميد يوسف أوردنا إحداهما (رمز الضيا ) فى سرد سابق ونتناول الآن أغنية
(غضبك جميل زى بسمتك) وهى فى حد ذاتها كنظم شعرى وبلاغى وعاطفى تمثل حركة
التجديد التى كان يموج بها المجتمع الفنى منذ نهاية أربعينات القرن الماضى
الذى شهد طفرة أيضا فى أساليب التلحين وإضافة تراكيب وقولبة جديدة يمكن
القول بأنها قد جنحت بل وارتمت فى أحضان الرومانسية تمثل ذلك فى شعر صلاح
أحمد محمد صالح وحسين با زرعه ومبارك عبد الوهاب ومبارك المغربى ولكن حميده
أبوعشر مع ما تميزت أشعاره من تجديد فهو منتم شكليا للمدرسة الوسيطة بين
مدرسة أغنية الحقيبة والمدرسة الموسيقية التجديدية التى كان يتزعمها الشاعر
الملحن عبد الرحمن الريح بينما كانت قصائد حميده أبو عشر تموج فى داخلها
بعاطفة جياشة ورهافة حس رومانسى مهد الطريق للأغنية الجديدة لتتحول فى
مبانيها ومعانيها إلى حديقة مزدحمة بالألوان بمعنى أن الفن الرومانسى هو فى
حقيقته تجربة جمالية ذاتية وانطلاق للتعبير العاطفى بحرية وشفافية وليس من
المستغرب إذن أن تأتى الأساليب الجديدة فى كتابة القصيدة محفزا أيضا
لإكتشاف أساليب جديدة فى الصياغات اللحنية ومن هنا جاء التحالف أو تناغم
المزاج والحس العاطفى بين الشاعر والملحن فظهرت ثنائيات قدمت لنا غناءّ
رفيع المستوى مثلا أغنية الملهمة (عبدالحمن الريح / التاج مصطفى) ، وأغنية
الفراش الحائر ( قرشى محمد حسن / عثمان حسين ) ، وأغنية فى سكون الليل (
مهدى الأمين / أحمد المصطفى ) ، وأغنية فيردلونا ( محمد أحمد محجوب / حسن
عطيه ) فكل أغنية من هذه الأغنيات لو أجرينا عليها تحليلا سيتأكد ما ذهبنا
إليه من أن كل أغنية هى فى حد ذاتها مدرسة فى التجديد مختلفة تماما عن
الأغنيات الأخرى وهذا التميز هو الذى زخم حركة الغناء ورفدها بم جعل منها
حركة تجديد أسماها بعض الكتاب ( الأغنية الحديثة Modern Song) وآخرون من
البحاث الأكادميين أطلقوا عليها (الأغنية الفنية Art Song) بل أن كثيرين
كانوا يصفونها بأنها ( الأغنية الطويلة ؟) متعددة الألحان والكوبليهات
وكلها إجتهادات فى غياب البحث العلمى والأتفاق على مصطلحات علمية واقعية
محددة ... هذا موضوع شائك ليس هذا مقامه .
وإنطلاقا مما ذكرنا فإن أغنية (غضبك جميل زى بسمتك ) تعبر عن النهج الوسيط
بين مدرستين وإن كان مبشرا بالنهج الحداثى بلا شك ....... تبدأ الأغنية
بمطلع يبدو للوهلة الأولى أنه أقرب إلى النثر ..... نثرا يحمل معنى جماليا
تقريريا
على كل حال شكلك بديع غضبك جميل زى بسمتك
ولكن إذا وضعنا هذا الإستهلال فى سياق القصيدد سيتأكد بكل جلاء أنه بيت شعرى يستكمل بناء المقطع الشعرى على هذا النحو:
حكم الغرام بتذ للى
حكم الجمال بتد للك
الإستياق والإحتراق والوجد لى
والإبتسام والإنسجام والحسن لك
عجبا تكون قاسى ووديع
على كل حال شكلك بديع
غضبك جميل زى بسمتك
وبرغم ما يزدحم به المقطع الشعرى من بلاغة ومحسنات بديعية غير أن ما يحمله
من تقابل Contrast فى وصف الأحساس وضده (تذللى/ تدللك) (الوجد لى / الحسن
لك)
(الإشتياق / الإحتراق .. الإبتسام / الإنسجام) (قاسى / وديع ) (غضبك / بسمتك )
وكلها تعبير شفيف بإعتراف محب رغم عذابات حبه وذاك النعيم الذى يرفل فيه محبوبه
الجميل فى كل شئ بل حتى فى ظلمه وغضبه يظل المحبوب جميلا ودائما جميلا ذلك لأن الجمال والحب متلازمان.
أما المقطع الثانى فهو أيضا زاخر بمنتهى البلاغة وروعة الوصف وصدق الإحساس :
نظرة عـيونى لـمـحـنـتى
سحر الجمال فى بهجتك
خايف خدودك تـنجـرح من نظـرتى
خايف فؤادى يذوب حنان من نظرتك
يا آيـة المعـنى الرفـيع
على كل حال شكـلك بديع
غضبك جميل زى بسمتك
ولكن بعد كل ما يعتمل فى صدر الشاعر حميده أبو عشر من إحساس دفاق بالإخلاص
والتفانى والصبر فهو يختتم قصيدته الرائعة شاكيا معاتبا وحتى لا يجرفه
العتاب لأن كثرة العتاب والتمادى فيه يولدان النفور ليعود الشاعر متراجعا
ومغازلا كما تعود فى سياق اإستهلال والمقطعين السابقين قائلا :
كيف الخلاص يا دنيتى
ما بين خضوعى وجبرتك
أراك قريب لكن بعيد عن بغيتى
من بعدما أوقعتنى فى فتنتك
جرت وجفيت وجفاك مريع
على كل حال شكلك بديع
فإذا كانت أغنية ( غضبك جميل زى بسمتك) هى التى نفذ بها الفنان المبدع عبد
الحميد يوسف إلى رؤية متطلعة نحو تجسيد عملية التجديد وإثباتها كفعل إبداعى
حقيقى لتنطلق من بعد إلى حركة نشطة قادها أيضا وواصلها خدنه ورفيق دربه
العبقرى إبراهيم الكاشف رحمه الله وآخرون ، بهذا المفهوم وجدت من الواجب
علىَّ الكشف عن الخصائص والمكونات التى جعلت من هذه القصيدة المفتاح الذى
مهد لكى تنفتح أبواب تجديد كثيرة وما تزال ثم أن الشاعر حميدة أبوعشر رحمه
الله يستحق أن يحتل المكانة اللأئقة التى يتوجب أن يتبوأها ويكفيه لكى
ينصفه التاريخ أنه كتب أغنية ( غضبك جميل زى بسمتك ) ونعتبرها واحدة من
أجمل مائة أغنية للقرن العشرين المنصرم وفى سردنا القادم سنتناول بالتحليل
كيف لحنها عبد الحميد يوسف فصارت أنموذج التجديد الرائد .
رحم الله الشاعر المبدع المتفرد حميده أبو عشر والفنان المجدد عبد الحمبد يوسف ورحمنا وإياهم