كان مؤسسة ترويج للحسن السوداني شعارها أهوى القمر والنيل وأهوى الأزاهر مع طائر النيل المشوق الشاعر المصور سلطان الغزل بين منظومة شعراء الحقيبة, عتيق المعتق الذي هو أحد أمهر المهندسين الذين شادوا جسر التواصل الفني الغنائي بين تلك الحقبة ـ الحقيبة ـ وبين عصر الأغنية الذهبية فكان شاعرنا الكبير محمد البشير عتيق ذلك الشاعر المخضرم الذي سجل حضوراً يفاخر فيه نوع عطائه نسبة الكم العالية أفقياً ورأسياً بتوازن دقيق بين النوع والكم فلا ترجح فيه كفة على الأخرى فكثير من الشعراء الكبار نجدهم أهل لصفة شاعر مجيد ولكنه مقل. أما عتيق المعتق فهو كشيخه أبو صلاح شاعر مكثر ومجيد لعل من أميز ما وضع عتيق في خانة (شاعر مكثر ومجيد) لعل ذلك يكون لعوامل متعددة توافرت له وأتاحت له ذلك النبوع وذياك اللموع في سماء المجد وفي شعاب وادي عبقر ومن أهم تلك العوامل: قوة ملكته وارتفاع حاسته الجمالية فضلاً عن استعداده الفطري المتميز فإن حصيلته من المخزون الثقافي والمعرفي والالتحام مع الناس ومع همومهم وأشواقهم لعلها مع تلك العوامل ما تكون من أكثر عوامل نجاح عتيق وتميزه في دنيا الشعر وساحات الغناء وهو شاعر مفطور وفنان مطبوع ومثقف موفور الثقافة واسع الإطلاع. إلى جانب تلك العوامل آنفة الذكر فإن عتيق كان يسجل حضوراً في أوساط الشباب الذين كانوا في سن أبنائه الصغار أو أحفاده أو أسباطه فكان كثير المشاركات في محافل الأندية الثقافية والمراكز الثقافية ومسارح الجامعات داخل السودان وخارجه من أكثر المنتديات التي كان يشارك فيها ولا يتخلف عن حضورها ندوة الأربعاء بنادي الخريجين والتي كان يديرها ولسنوات عديدة منذ منتصف السبعينيات وحتى رحيله في 9 يونيو 1982م. الأستاذ الشاعر الكبير مبارك المغربي الذي كانت تربطه بعتيق صلة مودة وصداقة وثيقة مما نذكره وقد كنا من الناشئة في تلك المرحلة وكان من حضور تلك الندوة من الشباب والإخوة الشعراء عبد القادر الكتيابي وعبد القادر أحمد سعد وصديق المجتبى وأزهري محمد علي وفريد يوسف وعوض إبراهيم عوض وصلاح أحمد عبد الفتاح وعباس علي عباس وجمال حسن سعيد وفتح الله إبراهيم وحاج بانقا ومحمد عبد القادر أبو شورة وربيع محمد صالح وغيرهم فكان عتيق يسجل حضوراً لجيله بأنفاس جديدة وبروح ملء أو فاضها جمال شباب الروح المتجدد على وفاته!! مما كان يروق حادي تلك الندوة التي كان يشارك فيها الشعراء الكبار. محمد علي عبد الله وعمر البنا وعبيد عبد الرحمن والعمرابي ـ في بعض الأحيان ـ وسيف الدين الدسوقي وخليفة الصادق ومحمد يوسف موسى ومحمود حسين خضر ومهدي محمد سعيد والجيلي محمد صالح ومصطفى عبد الرحيم وأحياناً (حسن عباس صبحي وحسن الزبير وتاج السر عباس). فكان المغربي حادي تلك الندوة يطلب إلى عتيق قصائد معينة ومعظمها لم يتغنَ به أي مطرب كأنما كان المغربي يريد أن يوقف الشعراء الشباب على جوانب أخرى من تناولات عتيق المعتق من تلك القصائد اللطيفة إن عتيق كان قد ذهب مستشفياً إلى مستشفى أم درمان وكان يحمل أورنيكاً مرضياً من شركة مواصلات العاصمة وكان يرتدي الأبرول وهو براد ماهر كان قد عمل بالمواصلات (أبو رجيلة) بعد تقاعده بالمعاش من سكك حديد السودان فجلس في صف المرضى بالحوادث وكانت المهمة النبطشية موكلة في ذلك اليوم إلى طبيبة شابة فأعطت عتيق علاج وثلاثة يوم راحة مع العلاج, فداهمه شيطان الشعر فكتب قصيدة أسماها (إلى دكتورة) وأرسلها إليها مع أحد الأطباء بمستشفى أم درمان فكان ردها: (هو ده عتيق الشاعر والله لو كنت أعرف انه عتيق الشاعر الكبير لمنحته في ذلك الأورنيك ثلاثة أشهر راحة مش ثلاثة أيام). وتقول بعض أبياتها:
مريض سيادتك قاصد عيادتك ولازم إرادتك
وصار مستجيرك وما ليهو غيرك وماذا يضيرك
بي قلبو إلفة
ولي روحو تلفى نص حبة سلفة
ولو فيها كلفة آلامو تشفى وحرارتو تطفا.
أما في جانب مشاركاته الخارجية فقد كانت له رحلات شبه سنوية لمصر الشقيقة التي كان يحب السفر إليها حين كان بالسكة حديد والتي كان تصريحها مع الوابورات النهرية واحدة من مخصصات امتيازات العمل بها, ففي إحدى زياراته وإجازاته وبحكم وجود أغنياته في (ركن السودان) علمت الأستاذة ثريا جودت بوجود عتيق بالقاهرة فأرسلت إليه واستقدمته ليشارك في دورة رمضان فكتب فوازير رمضان على مدى 30 حلقة يومياً وأتاحت له بسيارة إذاعة ركن السودان بالقاهرة زيارات أعلام ومعالم مصر وقال لي عتيق إنه كان شديد الإعجاب بحافظ إبراهيم وبأحمد شوقي وبأحمد رامي وبأم كلثوم, فذهبت ثريا جودت به إلى الشاعر أحمد رامي وحين دخل عتيق على رامي وجده وسط حديقة منزله على (مرجحية فبادر أحمد رامي مرحباً بعتيق في داره بقوله: نورت مصر يا عتيق يا رائع, وقال رامي من هل تدري يا نعسان أنا طرفي ساهر (أهوى القمر والنيل وأهوى الأزاهر) وأردف رامي معلقاً (إيه الحلاوة دي كلها يا عتيق ده إنت ساكن فين يا عتيق!! فرد عليه عتيق (أنا أسكن في بيت لابس كاكي) أي بيت مجلوط بالزبالة وهو من جالوص أرض أم درمان المتين؟! في مهرجان الشعر العربي الذي انعقد بالعاصمة الليبية طرابلس, كان عتيق من بين أعضاء وفد السودان الذي كان برئاسة الأمين العام للمجلس القومي للآداب والفنون السوداني الأستاذ, مبارك المغربي وكان من أعضاء ذلك المجلس تقريباً, الأساتذة الشعراء مصطفى سند ومحي الدين فارس, وخليفة الصادق وغيرهم إلا أن لجنة المهرجان برئاسة الدكتور راضي صدوق كانت قد اعترضت على مشاركة عضو الوفد الأدبي السوداني محمد البشير عتيق باعتبار أنه شاعر نبطي ـ بلغة أهل الجزيرة العربية والحجاز فقال له رئيس الوفد السوداني الأستاذ المغربي لقد قصدنا من المجيء بهذا الشاعر القومي الكبير لدينا لنوقف المهرجان على قوة الأدب الشعبي السوداني وجزالة مفرداته وفصاحة خطابه وكونه يكاد يكون فصيحاً في عروبته مع سمو موضوعاته.. وحين أصرت لجنة المهرجان على موقفها من عدم مشاركة عتيق فاجأهم مبارك المغربي باتخاذ موقف حازم مؤداه إذا لم تتح الفرصة لعتيق للمشاركة فإن وفد السودان سيعلن انسحابه، ويغادر غداً عائداً إلى الخرطوم!! هنا نزلت اللجنة على رغبة رئيس وفد السودان وصعد عتيق إلى المنصة فقرأ ملحمة تحية للجماهير العربية الليبية وصادف صعود عتيق للمنصة في ليلة الافتتاح وصول القائد الأممي العقيد معمر القذافي الذي طرب لعتيق وكان كلما قرأ عتيق مقطعاً من تلك القصيدة التحية أو من ملحمته جبل مرة كان القذافي يقف مقاطعاً بقوله
أعد يا شيخ أعد يا شيخ) ودوى المهرجان بالتصفيق لعتيق وحين ترجل عتيق من منصة الليلة جاء رئيس لجنة المهرجان الدكتور صدوق وعانق المغربي قائلاً (إني أهنئكم يا أستاذ مبارك فلو كان هذا هو شعركم الشعبي فلا فرق بينه وبين الشعر الفصيح وإن دولة الشعر قد انتقلت إلى السودان). تعتبر قصيدة عتيق ملحمة جبل مرة أجمل وأشمل وأقوى وأروع ما قيل عن جمال جبل مرة الذي قال عنه عتيق بعد أن رآه قال في لوحة شعرية هي مشروع ترويج جمالي سياجي دون لقطات كل الكاميرات وزوايا كل اللوحات فهي عبارة عن تبتل في محراب للتأمل في ملكوت الله أطال فيه عتيق تبتله حين قال تلك المواحي وهاتيك اللوحات الحية ما أجمل بلادنا الحرة .
يا ضيفنا الـ جاي من برة لينا يزور
لو سمحت ظروفك مرة
روح أروع بقاع مخضرة
في دارفور وأوعك تنسى يا زاير جبل مرة
جميل والله بي المرة
وتأمل منظر الوديان وشوف سحر الطبيعة عيان
وكيف دوح الشجر رويان
عيون خافضة وعيون رافعة وعيون دافعة
وضريبة ولم تزل يا فعة
عيون منسابة زي أفعى بسفح الوادي مندفعة
تشوف الموية منفضة بصفحات الجبل بضة
تخاله ونازلة ومنقضة خيوط رقراقة من فضة
عيون تكوينه من ذرة وتحير عالم الذرة
مناظر تكشف الغمة وجمال في مستوى القمة
فكيف دوح الشجر لمه وتشوف ضوء القمر عم
وحوالينو السحاب وناصب على رأس الجبل عمة
دي ثروة عظيمة لي الأمة
ثمر شجراته ما غب ونعيم خيراته انصب
وكمان في طقسها الحالم ربيع يتحدى أوروبا
جنان بي سورا محتاطة وتفوق في زمانا قرناطه
مناطق ناطقة بالبشرى غيوم آفاقا منتشرة
وأريج أزهارا يتبادل يجيك كل ساعة بى نشرة
وبعد فهذا غيض من فيض عن عتيق المعتق مؤسسة الترويج الطوعية للحسن السوداني الذي كان وإلى رحيله أقوى الأصوات في ساحة الأدب السوداني دفاعاً عن حق المؤلف فهو الذي قال أما الشاعر المسكين يضيع يسهر مع الليل الهزيع يصيد المعنى البديع وهو الذي قال أيضاً في رسالة للرئيس جعفر محمد نميري: أما نحن الشعراء حياتنا رايحة ضياع نعينا كلمتين يتلاشوا في المذياع يرحم الله عتيق الشاعر الشامل الذي أجاد وأمتع ووهب من روحه هذا الفن الرفيع الذي شقت لهاته على مزاهر رونق الصبح البديع.
نقلا عن صحيفة الرائد